منذ أنْ كان طوفان الأقصى، وكان الميدان من لبنان، والناس على مدى سنةٍ ويزيد مشدودون بتلهُّفٍ إلى شاشات التلفزة. وشاشات التلفزة إنقسمتْ إلى مربّعات: منها جانبٌ يتابع أخبار الساحات، وجانبٌ آخر يتلازم يومياً مع استضافةِ الأضداد من المتحاورين والمتناظرين.
ومع أنّ بعض حلقات الحوار تضمّ مَنْ نعتبرهم مثقّفين، نرى كلَّ فريقٍ يحاول أن يفرض رأيه كحقيقة مطلقة بما يُشبه العقيدة أو الإيمان، ولا تلبث المحاورة أن تتحوَّل إلى صراخٍ ومشاجرةٍ وشتائم. يحضرني في المناسبة قولٌ للمحامي الراحل نجيب خلف، الذي كان يردّد أنّ الشتيمة من العيار الثقيل يجب أن تكون مسبوكةً بلغة الفُصحى. هذا يعني: لو فُرضَ على المتناظرين أن يتشاتموا بلغة الفصحى لكانوا امتنعوا عن الشتم بسبب عجزهم عن الإلمام بفصاحة اللغة. الموضوع الذي يدور حوله الجدَل الصاخب يقتصر على جدوى أو عدم جدوى فتح جبهة الجنوب اللبناني إسناداً لغزة وما نتج عنها من تداعيات، ولأنّ هذا الموضوع سيكون لاحقاً محوراً للنقاش الهادئ على المستوى الوطني، ليت المتحاورين اليوم بلغة الشتائم والتبرُّج الفكري يتوقّفون عن فلسفة التلاعب بمشاعر الناس واستثارة الحساسيات المرهفة في هذا الظرف الخطير، وفي الأحداث القاتلة يقتضي أن يعيش الناس قبل أن يتفلسفوا. الكلام الآن للميدان، والميدان غالباً ما يقلب المقاييس الفكرية والسياسية، ويجعل توجّهات عوام الناس تميل إلى جانب المنتصر الأقوى.
أبلغُ مثلٍ، ما شخَّصَتْهُ جريدة «المونيتور» الفرنسية حول مسيرة نابوليون، عندما هربَ من جزيرة «ألبا» زاحفاً نحو باريس: فراحت الجريدة تتدرَّجُ في سرْدِ أخباره منذ اليوم الأول على التوالي: نزل الوحش الكورسيكي... ظهر النمر في الجبال، صار الطاغية في مدينة «ليون»، يقترب الغاصب من أسوار باريس ، وفي اليوم الأخير عندما ظهر نابوليون منتصراً، كان الخبر: دخل صاحب الجلالة الأمبراطور باريس واستقرّ في قصره. بين زحفِ الوحش نابوليون من المنفى، حتى دخول صاحب الجلالة الأمبراطور قصره في باريس، يمكن استخلاص نتائج هذه الحرب الدائرة عندنا ومن حولنا. كنا نودّ إرواءً لغليل المتحاورين أن نختصر حتى الآن ما آلت إليه حرب الجميع على الجميع من نتائج وما يُحكى حولها من إيجابيات وسلبيات.
ولكن، لأنّ لا صوتَ يعلو على صوت المعركة، والمعركة لا تزال تسطِّر الملاحم، فلا بدّ من اختصار بعض عناوينها: تدمّرت غزّة الراقدة على رجاء القيامة، ولكنّ القضية الفلسطينية اكتسبت حضوراً كان راقداً... تفوّقت إسرائيل بحرب الإبادة الهمجية، ولكنّها مُنِيتْ بخسائر فادحة على الصعيد الإقتصادي والبشري والإنساني. إستثمرّتْ إيران غمار الحرب بالمراسلة، والنفوذ الإيراني في المنطقة معرّضٌ للإنحسار. أما في لبنان، وهو الأمر الأهمّ، فبالرغم من إحراق الأرض بالزيت والكبريت وتشريد الشعب بالحديد والنار، فقد تمكّنت المقاومة الإسلامية من زعزعة هالَةِ الجيش الذي لا يُقهر، واستطاعت أن تضرب في الأعماق الإسرائيلية التي كانت عصيّةً على الإستهداف.
وحتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، لا يزال لبنان وحده، يسير على طريق القدس ويعود على طريق غزّة، يرشفُ مراراتِ كأس سقراط ولا يحطّمُ الكأس على شفتيه. بعد انقشاع غبار الميدان، لا بدّ من أن ينصرف لبنان العقلي بكثيرٍ من الوعي والإستبصار، إلى تقييم عوامل الحرب أسباباً ونتائج، من دون أن يكون لكّل فريق رأيٌ بمثابة العقيدة أو الإيمان، إلّا الإيمان بلبنان.